حَرْفٌ

المرآة

علمتُ مؤخرا مهارة أبرعُ فيها جدًا، ولستُ واثقةً إن كان يجدر بي تسميتها بالمهارة، لكنني سأفعلُ على أية حال. فبجانب مهارتي في دفع الآخرين ونفضهم عن سجادة حياتي وإقصائهم من دار محيطي، لقد اكتشفتُ أنني ماهرة في الهروب كذلك! أهرب من رأسي، أخشى البقاء بداخله من دون شيء يشغلني عن المرآة في داخل رأسي .. فلا أريد أن أنظر إلى حالي وأهرب من مراعاتها وأقول “أنا بخير، لا لا لستُ بحاجة لهذا ولا ذاك، لستُ بحاجة للراحة فأنا مرتاحة” ومن هنا تمتلك هذه الكذبات الواضحة صوتًا فأقولها بكل جرأة، وأخفض بصري أثناء ذلك حتى لا تصرخ الحقيقة عبرَ عينيّ.

كصبي حافي القدمين يعض طرف ثوبه ويهرب بعيدًا عن فأر أو قطة أو أسد أو أفعى، لا يدري ولا يريد أن ينظر وراءه ليتأكد، فيندفع ويجري ويتوقف في محطات يتزود منها، ويتبختر بقوته الزائفة ثم يعاود الهرب مما يخيفه ويلاحقه. لربما كانت ذبابة أو لا شيء حقًا، لكنه خائف.

وهذا هو تحديدًا السبب في عدم مواجهتي للمرآة في عقلي، وعدم رغبة الصبي في النظر خلفه؛ الخوف من المجهول، هذا المتنمر الذي ينفخ صدره ويطلق النكات ويضحك مقهقهًا ومتباهيًا بقوته، فأحاول محاربته بقمع كل ما أشعر به -وهذه مهارة أخرى تولدت عندي إثر مهارة الهروب- أعيش في عالم من نسج خيالي، يرى الأشياء ويغير أحجامها ويتظاهر بعدم وجودها، فيمسك مشاعري من قميصها ويكور يده ويلكمها محاولًا حشرها بداخل خزانة ضيقة ومهددًا إياها بألا تصدر صوتًا. فأسير معتقدة انني أملك مشاعري لكن عبثًا، هذا القامع الأحمق لا يرى الصدأ الذي ينتشر في أنحاء الخزانة، فما تلبث المحشورة بداخلها حتى تثور هي وترفس باب الخزانة الذي كان سيسقط بسهولة لو انها زفرت عليه فقط، فتلقي بنفسها أمام قدمي لأتعثر وأسقط وأتبعثر إلى أضعاف سنوات عمري، ألملمها وألم كسراتي معها فتتساقط مجددًا وأعاود الكرة بفشل أقل حدة من سابقه.

مؤخرًا، توجهت نحو المرآة التي تحاشيتها طويلًا، وقفت أمامها ولم أجرؤ على رفع عيني لثوانٍ، أم دقائق، أم ساعات .. لستُ أدري فالوقت عديم القيمة أمام تلك المرآة. وقفت وكبريائي يصرخ فيَّ لألّا أرفع عيني نحوها، لكن صوتًا ضعيفًا بائسًا همس بداخل رأسي وأخبرني أن أنظر فرفعت رأسي طواعية. لم أجفل مما رأيت بل إنني ابتسمت! لم يكن شيء قد اختلف فيّ وكما أراني دائما أشبه شجرة الصفصاف، شعري الطويل المتموج حولي، والحفرتين تحت عيني، وجسدي النحيل، مرتدية قميص شخصيات المنتقمون المفضلة لدي .. هذه أنا ولا شيء مخيف في! لكن .. حينما نظرت نحو عيني قطبت جبيني مباشرة، تسارعت أنفاسي ثم غطيت فمي بيدي بعفوية، فقد ظنت يداي أنهما تستطيعان منع ما سيحدث .. أذعن كل جسدي للموقف فوهنت قدمي وهويت أمام المرآة، لكن شيئا كان يشدني فلم أزل أحدق النظر في انعكاس عيني، وصوتي يرتفع. كفيّ الذان يضغطان على فمي بشدة فشلا في منع شهقاتي من الارتفاع .. انتحبت وبكيت بشدة لكل شيء وللا شيء، بكيت مواساة لنفسي وبكيت عزاء لروحي، بكيت للطفل الذي أرى صورته كلما أغلقت عينيّ، بكيت للآخرين، وبكيت من أجل البكاء فقط، مددت يدي نحو المرأة وأمسكتها لعلها تتوقف عما تفعله، حتى تركت عيني وشأنهما، خفضت رأسي من توي وأغمضت عينيّ بعد أن جفتا، سحبت نفسًا عميقًا إلى كهف صدري ثم أطلقته وعدت لا أشعر مجددًا .. نهضت بحركة آلية ثم توجهت نحو سريري، تناولت هاتفي و انطلقت أكتب نكات ساخرة متهكمة وأحاول زرع اللطف أينما سنحت لي الفرصة، وهاقد عادت الفريدة لعادتها القديمة.

قياسي
حَرْفٌ

هلوسة

فتحت عينيّ باتساعٍ كأن جمجمتي تريد لفظهما؛ شهقت وانكمشت فرائصي. أشعر به يتراجع، حركته البطيئة الرتيبة، أذرعه العديدة التي تشبه جذور شجرة عجوز، رأسه الأسطواني. لم أكن أراه لكنني أشعر به، أشعر بأنفاسه الخافتة التي يصاحبها صوت أزيز منخفض وبعيد، يشهق ويزفر بترتيب شديد. أمعنتُ النظر وعينيّ مازالتا جاحظتين، كنت أنام على جانبي الأيسر بمواجهة الحائط فلا أرى سوى الحائط. لكنني أشعر كأنني أرى عينيه الحادتين المهدِدَتين الخاليتين من الحياة كما نعرفها تتفرسان فيَّ بتمعن أثناء تراجعه عن وجهي، يتراجع إلى الخلف ببطء كأنه حيوان الكسلان، ابتعد الآن عن ذراعيّ الذين أضمهما لصدري بطريقة تلقائية مني لأخبر نفسي بأني في أمان. إبتعد عن جذعي وأنا أعلم أنه ما يزال يحدق فيَّ، حتى وصل لساقيّ ثم سكنت حركته لفترة وجيزة، لم أحرك ساكنًا عدى لساني الذي يلهج بالدعاء والأذكار والآيات، أستحضر وجود الله حولي لأتقوى به بينما كانت غريزة قديمة تهتف بأن لا أحرك ساكنًا. استمر وجوده للحظات على ساقيّ وعينيه اللتين تبدوان كقطرتين من سائل ثقيل مظلم أجهله، لم أتمكن من رؤيتهما في الظلام الدامس، لكنني أشعر بهما. تراجع أخيرا عن قدمي وعاد ليجثم في وكره أسفل سريري ولست أدري متى سيستيقظ مجددًا، لا شك بأنه جائع ولم يستطع أن يأخذ كفايته من الغذاء، بل لم يبدأ وجبته بعد فقد قاطعته عند بدايتها باستيقاظي .. تنفست الصعداء ثم انقلبت إلى يميني مازال لساني يلهج وقلبي يكاد يحطم منزله ليفر من صدري. تناولت هاتفي وبدأت أقلب بلا هدف سوى أن أشتت عقلي عما حدث للتو، ثم غشتني رحمة الرب لأسكن في نومٍ هادئ.

قياسي
حَرْفٌ

جاثوم.

فتحت عينايَ ببطء لأرى الصوت الذي صمّ أذناي، صوتٌ حاد يشبه صرير بابٍ قديم صدِئ المقابض والمسامير. مازالت رؤيتي ضبابية لكنني أرى مصدر الصوت، امرأة تجلسُ أمامي مباشرةً بجانب قدميّ. كنت أرى جانبها فقط، هزيلة، وجهها هلالي و شعرها أسود كثيف يصل حتى أسفل أذنيها. تعبث بشيء ما في يديها بحركة رتيبة، التفتت نحوي ومازالت تغني، حاجبيها يختفيان تحت ناصية كثّة، وعينيها كأنهما قطرتين من سائل جامد. كأنها سرعوفة ضخمة تتنكر بهيئة بشرية!
لا أذكر كلمات أغنيتها الآن لكنها بدت كأنها وصايًا موجهة إلي شخصيًا، لم يعلق بذاكرتي أيٌ من وصاياها سوى الحث على ممارسة فن تأمل ياباني لست أدري إن كان موجودًا من الأساس، لكن اسمه تسلل من ذاكرتي. مازلت مستلقية أتابعها بعيناي، حين اقتربت مني وابتسامة غريبة تعلو محياها، توقفت عن الغناء لوهلة وهي تركز النظر في عينيّ وأقسم أن عينيها ليستا بشريتين أبدًا! رفعت كفها الأيسر نحوي ووضعته أمام وجهي؛ لا أرى سوى أصابعها النحيلة الطويلة، وخطوط كفها الكثيرة. كأن الوقت صار بطيئًا جدًا، تسارعت نبضاتي، تعرّق جبيني، اضطربت أنفاسي.. أطلّت عليّ بوجهها من خلف كفها وابتسامتها حُفرت في وجهها، همست بعبارة واحدة، وقد صار صوتها يشبه صوت احتكاك الأسنان ببعضها:
“Wake up!”

فتحت عينيّ باتساع شديد وشهقت حتى كادت رئتيّ أن تنفجرا. مازلت مستلقية، المكان مظلم، ولستُ قادرة على الحراك. كفيّ متشابكان على صدري وأشعر بهما ينكمشان ويلتويان، قفصي الصدري تيبّس وصار حجرًا، وقصبتي الهوائية تتقلص وتهوي على نفسها، هل يحاول جسدي أن يطردني؟ استحضرت سورة الفاتحة بالرغم من معرفتي أن ما للشيطان ناقة ولا جمل فيما يحدث الآن، حركت عينيّ يمنة ويسرة بسرعة حتى أخبر عقلي بإنني استيقظت ويجب عليه أن يحل وثاقي ففعل من فوره. كنتُ قد اعتدتُ هذا الوضع حتى الآن لكنه مازال يفاجئني في كل مرة!
وبتساؤل ميتافيزيقي، هل يحاول جسدي فعلًا التخلص من روحي؟!

قياسي
حَرْفٌ

رماد

✯ Volcano at Sunset

 

الشمس الغاربة هي آخر ما شهدته عيناي قبل أن هويتُ فُتاتًا رمادًا تذروه الرياح، اليوم توفيتُ إثر رمحٍ ناريٍ عبَر جسدي مخلّفًا ألسنة لهبٍ تلتهمني ببطء.

تسللت دمعة باردة من عيني التي صارت خندقًا، فتبخرت مع الهواء قبل أن تصل إلى عظمة وجنتي، حين رأيتُ ظلاً برأسين متباعدين وأقدام كثيرة، كان يومًا نورًا لعُتمتي ، أم أنني ظننته كذلك! استدار الظل ضاحكًا بعد أن أتم رمحه المهمة بنجاح، ثم ابتعد بخطوات راقصة بينما أقف على حافة فوهة البركان الوحيد ، سأهوي واحترق .. همستُ لنفسي:

“أسأنسى كما لم أكن؟!! “

تساقطت ذكرياتي أمامي مخلّفةً صدى يحمل أصوات الوعود والعهود التي قطعها الكثيرون لأجلي، الآن حصحص الحق و انقشعت الغمامة عن بصيرتي ، لكن جسدي تهاوى كحُطام فخّار ثم تحول ترابًا ورمادًا، استقر صامتًا واستمر الصمت لوقت أحسبه لا ينتهي ..

سرى صوتٌ عميقٌ قديم عبر حمم البركان بجانبي :

انهضي، من الرماد تولدي، افردي جناحيك و نحو الشمس حلقي.

 

قياسي
Uncategorized

أحجية.

كانت تجلس في ذات المقعد و في ذات المقهى الذي ترتاده كل صباح، بجانب النافذة المطلة على الشارع، امام نافذتها مباشرة يسترخي العم “عيسى” العجوز على كرسيه خارج مكتبته الصغيرة القديمة، يقرأ جريدة الصباح كعادته و يرتشف الشاي الساخن. لطالما كانت هذه المكتبة ملاذها الآمن، بل و تشعر كأنها أليس في المكتبة التي تحمل روح بلاد العجائب والتي -لحسن الحظ- سقطت سهوًا في هذه الأرض وهذا الحي تحديدًا. بينما كانت تتجول بين الأرفف بذهول و تتناول في كل مرة كتابًا برقة ويكاد يتقطع بين اصابعها النحيلة، معظم كتب المكتبة مستعملة وقد تم التبرع بها، من قبل العم عيسى بنفسه. لقد كانت هذه المكتبة بما تحوي هي إرثه الذي يفخر به بينما يخبره ابنه بأنّ بقاءه بين أكوام الكتب المهترئة سيسبب لوثة بعقله لاحتوائها -باعتقاده- على أمراضٍ بالغة القِدم، بل و سيقوده بقاءه إلى الخرف المبكر جدًا ! لكن العم عيسى كان يضحك هازًا رأسه في كل مرة حيث أنه اقترب من عمر السبعين ومازال يحتفظ بصحته الجيدة و ذاكرة من حديد.

كان العم عيسى دائمًا ما يبتسم باتساع حين تدخل رحمة بابتسامتها المشرقة و عينيها اللتان تشتعلان بريقًا و لمعانًا وهي تستنشق رائحة المكتبة بتلذذ وتحييه بتحية لم يكن باستطاعته أن يردها بأحسن منها. كانت رحمة تحب قضاء وقتها حول العم عيسى في مكتبته فهو يشعرها بالامان. كانت دائما ما تسأله اذا ما كان قد ضاعت منه حفيدة في وقت ما ؟ حيث انها تشعر بالحميمية نحوه كأنه جدها الذي لم تحظى به يومًا، فينفجر ضاحكًا ويجيبها بحنان يكاد يتفجر من عينيه “أنا جدك بالروح يا بنتي .. ” فقد كان هو الملجأ و الصديق و الأب الذي ادخلته في سوداويتها. حتى جاء ذلك اليوم الذي كانت تجلس فيه كعادتها في ذلك المقعد المنزوِ في مقهاها المعتاد و تتناول افطارها المكون من كعكٍ محلىً بالعسل، تضع اربع ملاعق سكر في قهوتها، فهي تحبها حُلوةً مُرّة. سحبت اكمام كنزتها الحمراء الدافئة لتغطي كفيها فلا يظهر سوى اطراف اصابعها، ترفع كوب القهوة قريبا من وجهها لتتمكن من استنشاق رائحة القهوة المنعشة ، عادة تلقائية تمارسها رحمة بتلقائية بينما تراقب المارّة بعينيها اللامعتين بلون العسل ، وتغرق في الكون الصاخب بداخلها. افزعتها حركة سريعة امامها افاقتها من سرحانها، رجلٌ طويل القامة وعريض الكتفين يسحب المقعد المقابل لها ويجلس أمامها تمامًا وينظر في عينيها مباشرة بابتسامة صامتة! استهجنت حركته بشدة لكنها لم تنبس ببنت شفة، تلفتت حولها في المقهى ثم اعادت النظر إليه فاغرةً فاها بحاجبين مرتفعين. تشعر أنها رأتها مسبقًا لكنها لا تستطيع التذكر أين ومتى، هذه الملامح؛ بشرة فاتحة، شعر أسود وحاجبين كثيفين، عينين غائرتين بحدقتين كلون قهوتها تنظران نحو عينيها بتركيز، لم يكن وسيمًا لكن حضوره القوي أخرسها، أضف إلى ذلك جرأته الغير معهودة! ابتسم اكثر بسبب شدوه تعابيرها و تحدث أخيرًا :

” مرحبًا .. ”

ردت رحمة بصوت جامد وهي ترفع حاجبها باستهجان:

” يبدو أنك مخطئ .. ”

اجابها بثقة تامة وابتسامته لم تفارق محياه:

” بل لم أكن مُصيبًا أكثر من هذا يومًا ! ”

” عذرًا ! ”

وقف أخيرًا وهو يميل رأسه ويرفع حاجبيه دلالة على خيبة الامل و ابتعد عن طاولتها لتطلق هي أنفاسها الحبيسة، تلفتت نحو النافذة وهي تتلمس وجهها الذي يكاد يتفجر حمرة بسبب الارتباك والغضب معا .. ابتلعت ريقها بصعوبة ، كانت تقاوم الرغبة الشديدة بالالتفات فهي تخشى أن يكون هذا الغريب جملة و تفصيلا، ما يزال قريبا منها. تناولت كوب قهوتها بأصابعها النحيلة مجددا و رفعته نحو شفتيها. ما لبثت أن افزعتها عودة الغريب السريعة و جلوسه مقابلها في نفس المكان الذي غادره، ارتشف بضع رشفات من كوب قهوته الذي غاب ليحضره ، و التفت نحو النافذة حيث كانت تنظر قبل أن يداهمها، لم تستطع رحمة أن تتمالك نفسها ، فقاطعها حين همت بالكلام :

” مُصعب. ”

تراجعت رحمة بمقعدها قليلا مغمضة عينيها بنفاد صبر و حيرة ثم اطلقت نفسًا عميقًا و أردفت :

” تشرفنا .. ”

ساد الصمت بينهما للحظات ثم اكملت بابتسامة محتارة :

” آمم .. عفوًا ، لا أقصد أن أكون فظةً؛ لكن لا أظن اننا قد تقابلنا قبلًا، أظن بأنك مخطئ .. ”

رد مصعب بهدوء و تودد :

” أوه، حسنًا، أعذري فظاظتي آنستي ، في الواقع لستُ أدري ماذا أقول لكِ، أريد أن أشاركك هذه الطاولة فقط .. ”

لم تعرف رحمة بمَ ترد أو كيف تفهم هذا الغريب، همّت بالقيام وترك الطاولة له حين فاجأها بينما مازال ساهمًا بنظره عبر النافذة :

“لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني.”
أردفت رحمة بهمس بالكاد سمعته هي:

” العقاد .. ”

فالتفت مصعب بابتسامة باردة لم تستطع أن تفهمها:

” كان والدي يردد هذه العبارات كثيرا .. عمومًا، ماهو كتابك المفضل؟ ”

شدت رحمة حجابها بتلقائية محاولة ان تستحضر كياستها، فهذا المصعب لا يترك لها فرصة بالاستئذان! فأردف مصعب:

” أظنك من هواة الروايات، هاري بوتر ربما!”

ابتسمت رحمة بدورها بهزل وهي تلم حاجياتها بهدوء:

“بل سيد الخواتم .. أستميحك عذرًا ”

بادلها مصعب الابتسامة وعاد بنظره إلى النافذة ليرمق عيسى العجوز الذي حفر الزمان اثاره في وجهه وبشرته واشتعل الشيب برأسه ولحيته، كل تجعيدة وبياض شعرة يحملان قصصا وحكايا. تبددت ابتسامة مصعب وهو ينظر الى العجوز ببرود وارتسمت على ملامحه تعابير غير مفهومة .. وقف بصعوبة وهو يجر قدماه جرا، كأنه شخص آخر تماما عما كان …

قياسي
Uncategorized

وليمة الذكريات.

البرد قارص، و يلتهم أطرافي بتلذذٍ مُقيت، حاولتُ أنْ أتكفكف عنه وأحتضن نفسي لكنّ ذراعيّ انكمشا فصارا قصيران جدًا. هاهو عود الكبريت الأخير، مرّرته على رقبتي القاسية ليشتعل لكنه تحطّم إلى ثلاث وعشرون قطعة، تمامًا كعدد سنوات عمري المبتورة. بقيتُ وحدي في هذا الخواء أستمع إلى تنهيدات العجوز الذي يقطن على رأس الجبل، يبكي رثاء قلبه المكلوم، و أواسيه بدوري بسائل من محيط عيناي يشق طريقه أخدودًا على وجهي.

مرةً مرّني عابرٌ أتى من مدينة بعيدة و أخبرني أنّ صوت نحيب العجوز ليست إلا رياحًا، وما أدراه ؟! لقد عشتُ هنا عمرًا مديدًا، لست أعلم إن كانا عقدين أم قرنين من الزمان, فقد فقدتُ القدرة على العد! أخبرني العابر كذلك أنّ عينيّ بحرٌ من قهوة و كاكاو، تلك كانت المرة الأولى التي أرى بها شيئًا من ملامحي، بقعتان مجهولتا المادة، تلمعان في الظلام المُستطير.

حينما رحل العابرُ أرسلتُ معه جناحيّ ، غمامتين يظللان طريقه الذي أجهله .. لم أرهما مُذ ذلك الحين، أخشى أنّهما ، في أفضل الحالات، قد ضلّا الطريق. بتُّ أستصرخهما كل يومٍ حتى يغشاني النعاس، لكنّ صوتي رحل خِفية في إحدى الليالي، رحل مُغاضبًا، و حزينًا يملؤه الحنين! رحلوا جميعًا و بقيتُ أنا هنا، وليمةً نحيلةً سهلةً لمخالب الوحش المدعوِّ بالذكريات، بقيتُ وحدي بلا أجنحةٍ ولا صوت، و ذراعيّ قصيران جدًا ..

قياسي
Uncategorized

تحوُّل 

قشرة جليدية رقيقة تفصلها عن الهاوية المشعّة، تقف بحذر و عينيها الباردتين تحدقان في الأفق. سحب قرمزية تتشقق عبر رمادية السماء، صمت مطبق إلا من صوتها الذي يغني بنغمة تشبه معزوفة الريح الحزينة، تهويدة الحنين القديم. تنتظر بأمل زائف، لم تكن تدري أن زيف الأمل هو السكين الموجه نحو قلبها بانتظار أن يخترقه بهدوء و تروٍ.

انقشعت السحب عن وجه السماء، كان الوقت نهارًا بلا شمس. لحظة صفاء غزت عقلها ببطء، سحبت نفسًا عميقًا لتسقي عطش فؤادها، لكن الهواء الملوث زادهُ ظمأً. حركت قدميها العاريتين على الجليد، نصف خطوة، بينما عينيها مازالتا شاخصتين بالفراغ، لم تكن تعابيرها قابلة للقراءة. أغمضت عينيها حين شعرت بوخزة السكينة المعلقة في الهواء والتي تنتظر بنهم ..

خطوة كاملة، الآن.

ابتلعت ريقها بألم إثر الحقيقة التي ضمت جسدها كثوب من الأشواك، شقوق انتشرت عبر كامل جسدها لتدميه. ارتفعت نغمات صوتها حين اخترقت السكينة قلبها، فغادرت أسراب طيور من رمادٍ كانت حبيسة أضلعها. أصبح فؤادها فارغًا فتنفست بعمق، خطوة أخرى فعبَرها السكين الوحيد.

تصدعت السماء الرمادية لتمطر نورًا، ثبتت قدميها على الجليد الذي أصابه الدفء، ابتسمت بعمق ملتفتة للذكريات التي تسربت عبر الشقوق في جسدها لتسقط في الهاوية المشعة، لقد كانت قبل هذا تأكل جسدها ببطء!

أزالت خصلاتها السوداء عن وجهها و رفعت رأسها للسماء بابتسامة، تمد ذراعيها بمرح لم تعهده من قبل. لمسات المطر المضيء على بشرتها تغلغلت بداخلها عميقًا، توسعت ابتسامتها براحة حين ارتفعت عن الأرض. ضحكت مبتهجة و صوتها يرتفع بسعادة غامرة؛ ياللإله، إنني أطفو!

قياسي
Uncategorized

المادة: كشكول. 

مرحبًا مجددًا،

في كل مرة أعود للمدونة و اطبع أحرفًا محتارة بسرعة خشية أن تهرب من عقلي قبل أن احبسها على صفحتي. ثم أعود لأغلق الصفحة آمرةً التطبيق بأن يحذف ما كتبته، لا لشيء سوى أنني لا أفهم ما طلسمت.

قررتُ الآن أن أكون أكثر جرأةً و أطبع ما طرأ على عقلي ثم أنشره بلا مراجعة وبلا تدقيق كالمعتاد.

سأكتب قبل أن يمل إبهامي من التفاصيل التي لا تنتهي، و كما يقول لي البعض “الزبدة؟” لستُ أدري ماهيّة هذه الزبدة إطلاقًا! عقلي لا يعمل كعقول من هم حولي و هذا ما يجعلني أسير بقدم على الرصيف، و الاخرى بجانبه. لقد كنت دائمًا مختلفة سلبًا و إيجابًا معًا. بدءً من إسمي الأول الذي يختلف تمامًا عن باقيه وصولًا إلى قبيلتي، فريدة.

اسمي يصيبني بالحيرة تمامًا كغرابته في مجتمعي، لم أكن قد أتممت السابعة من عمري حين كان الأطفال في سني يتمايلون ضحكًا على “فريدة” مطلقين أنواع النكات على هذا الإسم العجيب! لم أكن أفهم كيف تكون خمسة أحرف شكلًا من أشكال الطرائف. في الحقيقة كنت اظن بأن هذا الاسم الغريب لعنة علي، و مازلتُ ..
سأقف هنا، في صفحة غير مكتملة، عشوائية تمامًا كأفكاري التي تتحرك بسرعة ثلاث و عشرون ألف سنةٍ ضوئية لكل ثانية. إنني آمل حقًا أن أعاود الكتابة مجددًا، أن أستكمل ما بدأته، فهاقد تملل إبهامي كما تنبأتُ بدايةً ..

للأحرف بقيّة.

قياسي
Uncategorized

هرطقة.

أشعر بالخواء، باللاشعور .. 

أصبحتُ أشبه الشجرة العجوز التي كانت تحنو علي بظلها، إلا أنني بلا أوراق، يابسة، جوفاء، وبلا ظل .. 

اسمع خوار الهواء وهو يصيح بداخلي، جامدة كعجل قوم موسى ..

عينيّ خاويتان، باردتان شاخصتان باللاشيء، لم تعودا تلمعان بمرح كالسابق. لقد فقدتُ الكثير مؤخرًا .. الكثير الذي كان يعمّرني، سأحدث أخباري لخالقي .. سأرجف رجفة كما الأرض التي اغتالها ابناؤها. 

لست ادري مالذي اهرطقه على هذه الصفحة الفارغة مثلي، كل ما اعرفه انني اردت ان انشر حروفًا منزعجة ليصمت العالم، و اعود إلي صمتي القديم. 

قياسي
حَرْفٌ

أنا العنقاء

 

كان لديّ صديقٌ قديم، كابوسي الخاص، كنتُ استأنس برفقته بخوف. يلف يديه حولي و يغرز اظفاره بظهري كناية عن تملكه لي، كنت أستسلم بين ضفتيه؛ أعض شفتيّ لأمنع صوتي المختنق من التعالي، حتى أشعر بطعم مرارة السائل القرمزي في فمي مرورًا ببلعومي.. 

في أحد الأيام كنت كعادتي أرتعش بين يديه اللتان كانتا أقرب إلى كلاليب فولاذية، اضحك بهستيريا على نكاته الشبحية، ياللسخرية! 

لحظة مهمة تلك التي سمعت بها حفيفًا، صريرًا .. لحظة بارعة شعرت بحركة لطيفة بظهري، تمامًا حيث كان، صديقي القديم يغرز مخالبه التي يسيل منها القطران. كنتُ قد أغلقت عينيّ لتسع سنينٍ عجاف ثقال، حتى أنني خلتُ أنهما قد خيطتا ! لحظة اندفاع الادرينالين بجسدي، شعرتُ بتيارات كهربائية بقوة تسعة آلاف واط وأكثر ، تعبر خلال جسدي كاملا .. كانت لحظة متهورة تلك التي قررتُ فيها أن اترك امانيَ المخيف، أن أخطو خارج المحارة التي لم أعرف سواها قبلًا، نحو العالم الغريب. تناهى إلى سمعي صوتٌ يستجديني للعودة، لكنني تجاهلته رغم ذلك .. تحول الصوتُ متوعدًا و منددًا، يدعو بالويل و الثبور، يخبرني أنه مدينتي الفاضلة، يهدد أنني سألتهم الرماد خمس لقمات متتالية حتى أُتخم و يخرج من مدمع عينيّ .. مسكينٌ ذلك الصوت، لم يكن على دراية بما كنتُ أرى ! كونٌ سرمديٌ يداعب عينيّ في الخارج، رائحة حنونة تشعرني بالدفء.. أوه، أهذه هي رائحة ما يسمونه بأشجار الصنوبر ؟! ياه، صوتٌ عذب بداخلي يهمس لي أن استمر، شعورٌ قويٌ يجرني إلى الخارج. فتحتُ عينيّ باتساع، ياللدهشة! سوطٌ من نور يرقص أمام ناظريّ ، حينها فقط عادت الحركة اللطيفة في ظهري، كتفيّ تحديدًا لكن هذه المرة كانت قوية، كأنّ شيء يريد الخروج من ظهري، أن يتنفس ! فتحتُ فمي لأصرخ فإذا بي أضحك حتى اختنقت بالاوكسجين .. 

سحبتُ نفسًا عميقًا منعشًا .. فانطلقت من ظهري قطعتين مكسوتان بريشٍ فضيّ، ترقص لمعتهما تحت عين الشمس وهي تميل محتضنة الأرض! همس الصوتُ بداخلي مجددًا 

” نحو الشمس، حلقي بجناحيك .. إنك العنقاء ” 

أسطورةٌ، تولد من رمادها ولا تلتهمه .. صعبٌ الوصول إليها ! 

أنا العنقاءُ. 

قياسي