Uncategorized

أحجية.

كانت تجلس في ذات المقعد و في ذات المقهى الذي ترتاده كل صباح، بجانب النافذة المطلة على الشارع، امام نافذتها مباشرة يسترخي العم “عيسى” العجوز على كرسيه خارج مكتبته الصغيرة القديمة، يقرأ جريدة الصباح كعادته و يرتشف الشاي الساخن. لطالما كانت هذه المكتبة ملاذها الآمن، بل و تشعر كأنها أليس في المكتبة التي تحمل روح بلاد العجائب والتي -لحسن الحظ- سقطت سهوًا في هذه الأرض وهذا الحي تحديدًا. بينما كانت تتجول بين الأرفف بذهول و تتناول في كل مرة كتابًا برقة ويكاد يتقطع بين اصابعها النحيلة، معظم كتب المكتبة مستعملة وقد تم التبرع بها، من قبل العم عيسى بنفسه. لقد كانت هذه المكتبة بما تحوي هي إرثه الذي يفخر به بينما يخبره ابنه بأنّ بقاءه بين أكوام الكتب المهترئة سيسبب لوثة بعقله لاحتوائها -باعتقاده- على أمراضٍ بالغة القِدم، بل و سيقوده بقاءه إلى الخرف المبكر جدًا ! لكن العم عيسى كان يضحك هازًا رأسه في كل مرة حيث أنه اقترب من عمر السبعين ومازال يحتفظ بصحته الجيدة و ذاكرة من حديد.

كان العم عيسى دائمًا ما يبتسم باتساع حين تدخل رحمة بابتسامتها المشرقة و عينيها اللتان تشتعلان بريقًا و لمعانًا وهي تستنشق رائحة المكتبة بتلذذ وتحييه بتحية لم يكن باستطاعته أن يردها بأحسن منها. كانت رحمة تحب قضاء وقتها حول العم عيسى في مكتبته فهو يشعرها بالامان. كانت دائما ما تسأله اذا ما كان قد ضاعت منه حفيدة في وقت ما ؟ حيث انها تشعر بالحميمية نحوه كأنه جدها الذي لم تحظى به يومًا، فينفجر ضاحكًا ويجيبها بحنان يكاد يتفجر من عينيه “أنا جدك بالروح يا بنتي .. ” فقد كان هو الملجأ و الصديق و الأب الذي ادخلته في سوداويتها. حتى جاء ذلك اليوم الذي كانت تجلس فيه كعادتها في ذلك المقعد المنزوِ في مقهاها المعتاد و تتناول افطارها المكون من كعكٍ محلىً بالعسل، تضع اربع ملاعق سكر في قهوتها، فهي تحبها حُلوةً مُرّة. سحبت اكمام كنزتها الحمراء الدافئة لتغطي كفيها فلا يظهر سوى اطراف اصابعها، ترفع كوب القهوة قريبا من وجهها لتتمكن من استنشاق رائحة القهوة المنعشة ، عادة تلقائية تمارسها رحمة بتلقائية بينما تراقب المارّة بعينيها اللامعتين بلون العسل ، وتغرق في الكون الصاخب بداخلها. افزعتها حركة سريعة امامها افاقتها من سرحانها، رجلٌ طويل القامة وعريض الكتفين يسحب المقعد المقابل لها ويجلس أمامها تمامًا وينظر في عينيها مباشرة بابتسامة صامتة! استهجنت حركته بشدة لكنها لم تنبس ببنت شفة، تلفتت حولها في المقهى ثم اعادت النظر إليه فاغرةً فاها بحاجبين مرتفعين. تشعر أنها رأتها مسبقًا لكنها لا تستطيع التذكر أين ومتى، هذه الملامح؛ بشرة فاتحة، شعر أسود وحاجبين كثيفين، عينين غائرتين بحدقتين كلون قهوتها تنظران نحو عينيها بتركيز، لم يكن وسيمًا لكن حضوره القوي أخرسها، أضف إلى ذلك جرأته الغير معهودة! ابتسم اكثر بسبب شدوه تعابيرها و تحدث أخيرًا :

” مرحبًا .. ”

ردت رحمة بصوت جامد وهي ترفع حاجبها باستهجان:

” يبدو أنك مخطئ .. ”

اجابها بثقة تامة وابتسامته لم تفارق محياه:

” بل لم أكن مُصيبًا أكثر من هذا يومًا ! ”

” عذرًا ! ”

وقف أخيرًا وهو يميل رأسه ويرفع حاجبيه دلالة على خيبة الامل و ابتعد عن طاولتها لتطلق هي أنفاسها الحبيسة، تلفتت نحو النافذة وهي تتلمس وجهها الذي يكاد يتفجر حمرة بسبب الارتباك والغضب معا .. ابتلعت ريقها بصعوبة ، كانت تقاوم الرغبة الشديدة بالالتفات فهي تخشى أن يكون هذا الغريب جملة و تفصيلا، ما يزال قريبا منها. تناولت كوب قهوتها بأصابعها النحيلة مجددا و رفعته نحو شفتيها. ما لبثت أن افزعتها عودة الغريب السريعة و جلوسه مقابلها في نفس المكان الذي غادره، ارتشف بضع رشفات من كوب قهوته الذي غاب ليحضره ، و التفت نحو النافذة حيث كانت تنظر قبل أن يداهمها، لم تستطع رحمة أن تتمالك نفسها ، فقاطعها حين همت بالكلام :

” مُصعب. ”

تراجعت رحمة بمقعدها قليلا مغمضة عينيها بنفاد صبر و حيرة ثم اطلقت نفسًا عميقًا و أردفت :

” تشرفنا .. ”

ساد الصمت بينهما للحظات ثم اكملت بابتسامة محتارة :

” آمم .. عفوًا ، لا أقصد أن أكون فظةً؛ لكن لا أظن اننا قد تقابلنا قبلًا، أظن بأنك مخطئ .. ”

رد مصعب بهدوء و تودد :

” أوه، حسنًا، أعذري فظاظتي آنستي ، في الواقع لستُ أدري ماذا أقول لكِ، أريد أن أشاركك هذه الطاولة فقط .. ”

لم تعرف رحمة بمَ ترد أو كيف تفهم هذا الغريب، همّت بالقيام وترك الطاولة له حين فاجأها بينما مازال ساهمًا بنظره عبر النافذة :

“لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني.”
أردفت رحمة بهمس بالكاد سمعته هي:

” العقاد .. ”

فالتفت مصعب بابتسامة باردة لم تستطع أن تفهمها:

” كان والدي يردد هذه العبارات كثيرا .. عمومًا، ماهو كتابك المفضل؟ ”

شدت رحمة حجابها بتلقائية محاولة ان تستحضر كياستها، فهذا المصعب لا يترك لها فرصة بالاستئذان! فأردف مصعب:

” أظنك من هواة الروايات، هاري بوتر ربما!”

ابتسمت رحمة بدورها بهزل وهي تلم حاجياتها بهدوء:

“بل سيد الخواتم .. أستميحك عذرًا ”

بادلها مصعب الابتسامة وعاد بنظره إلى النافذة ليرمق عيسى العجوز الذي حفر الزمان اثاره في وجهه وبشرته واشتعل الشيب برأسه ولحيته، كل تجعيدة وبياض شعرة يحملان قصصا وحكايا. تبددت ابتسامة مصعب وهو ينظر الى العجوز ببرود وارتسمت على ملامحه تعابير غير مفهومة .. وقف بصعوبة وهو يجر قدماه جرا، كأنه شخص آخر تماما عما كان …

قياسي