حَرْفٌ

جدتي

توفيت جدتي لأمي بعد ولادتي بمدة قصيرة، تمنيت لو أنني رأيتها، تمنيت لو أنني أذكر رائحتها. لكنني أحمل بذاكرتي مشاهد وصور وروائح عنها رسمتها مما سمعته من إخوتي ووالدتي ونساء مجتمعي ورجالهم كذلك؛ فهي طيبة المعشر عطرة الذكر لا أحد يذكر اسمها إلا بدعوة وترحم، ولست أدري إن كان ترحمهم وذكراهم بسبب كونها امرأة صبورة، امرأة من اسمها تحمل اللطف بين كفيها ويتناثر عن اليمين واليسار فيغرق البقعة التي تمرها، امرأة تبتسم للمتألم وتضمد الجريح، كريمة ودودة حنونٌ تعبق بعبير الريحان الذي يزين ظفائرها. أم لأنها كانت من شدة لطفها تغض الطرف عن الأذى وتتجرع مرارة غربتها في أرض ليست بأرضها وقبيلة ترفضها لكونها غريبة عنهم، لا تحمل اسمهم.
لم يتولد نفوري من قبيلتي بلا سبب، فقبيلتي المشهورة بالطيب والشهامة لم تكن لينة على جدتي ولا علي حتى، ولو أن لا ذنب لقبيلتي ولا لتاريخها ببشرية اليوم، إلا أنني لا أملك إلا أن أشعر نحوها بالنفور وقلة الانتماء بالرغم من تعريفي لنفسي بها. ولعل شعوري نابع من أسفي على جدتي، تلك المرأة الساحلية المغتربة التي تركت حياتها عن بكرة أبيها وانتقلت للعيش مع جدي بين جبال حائل وصحاريها.
قبيل وفاتها، أوصت جدتي أن أُسمى باسمها، ومع أن القدر كان ألّا أسمى باسمها، إلا أنني حملت من صفاتها أكثر من مجرد اسم، فقد مُسحت بعض ملامحها في محياي، وبشرتي، ولون شعري، بل أنني ورثت لطفها الذي لعله انتثر منها بعد ولادتي ليصبغني. لطيفة هي، بل هي اللطف، أحبها جدًا برغم عدم رؤيتي لها، لكني أحبها وكأنني قد كبرت بين ذراعيها تهدهدني، أتمنى لو كنت قد رأيتها، لو كنت قبلت يديها ورأسها وأخبرتها أن قسوة الدنيا والناس عليها لا تضاهي حبي لها، لكنني أدعو أن تجد عند الله الرحمن بها مالم تجده في الدنيا، أن يشع جسمها الذي قاسى المرض عقدا من الزمان نورًا، أن ترتاح وتسعد وتضحك الجنة من ضحكاتها.
رحمكِ الله يا لطيفة

قياسي