حَرْفٌ

المرآة

علمتُ مؤخرا مهارة أبرعُ فيها جدًا، ولستُ واثقةً إن كان يجدر بي تسميتها بالمهارة، لكنني سأفعلُ على أية حال. فبجانب مهارتي في دفع الآخرين ونفضهم عن سجادة حياتي وإقصائهم من دار محيطي، لقد اكتشفتُ أنني ماهرة في الهروب كذلك! أهرب من رأسي، أخشى البقاء بداخله من دون شيء يشغلني عن المرآة في داخل رأسي .. فلا أريد أن أنظر إلى حالي وأهرب من مراعاتها وأقول “أنا بخير، لا لا لستُ بحاجة لهذا ولا ذاك، لستُ بحاجة للراحة فأنا مرتاحة” ومن هنا تمتلك هذه الكذبات الواضحة صوتًا فأقولها بكل جرأة، وأخفض بصري أثناء ذلك حتى لا تصرخ الحقيقة عبرَ عينيّ.

كصبي حافي القدمين يعض طرف ثوبه ويهرب بعيدًا عن فأر أو قطة أو أسد أو أفعى، لا يدري ولا يريد أن ينظر وراءه ليتأكد، فيندفع ويجري ويتوقف في محطات يتزود منها، ويتبختر بقوته الزائفة ثم يعاود الهرب مما يخيفه ويلاحقه. لربما كانت ذبابة أو لا شيء حقًا، لكنه خائف.

وهذا هو تحديدًا السبب في عدم مواجهتي للمرآة في عقلي، وعدم رغبة الصبي في النظر خلفه؛ الخوف من المجهول، هذا المتنمر الذي ينفخ صدره ويطلق النكات ويضحك مقهقهًا ومتباهيًا بقوته، فأحاول محاربته بقمع كل ما أشعر به -وهذه مهارة أخرى تولدت عندي إثر مهارة الهروب- أعيش في عالم من نسج خيالي، يرى الأشياء ويغير أحجامها ويتظاهر بعدم وجودها، فيمسك مشاعري من قميصها ويكور يده ويلكمها محاولًا حشرها بداخل خزانة ضيقة ومهددًا إياها بألا تصدر صوتًا. فأسير معتقدة انني أملك مشاعري لكن عبثًا، هذا القامع الأحمق لا يرى الصدأ الذي ينتشر في أنحاء الخزانة، فما تلبث المحشورة بداخلها حتى تثور هي وترفس باب الخزانة الذي كان سيسقط بسهولة لو انها زفرت عليه فقط، فتلقي بنفسها أمام قدمي لأتعثر وأسقط وأتبعثر إلى أضعاف سنوات عمري، ألملمها وألم كسراتي معها فتتساقط مجددًا وأعاود الكرة بفشل أقل حدة من سابقه.

مؤخرًا، توجهت نحو المرآة التي تحاشيتها طويلًا، وقفت أمامها ولم أجرؤ على رفع عيني لثوانٍ، أم دقائق، أم ساعات .. لستُ أدري فالوقت عديم القيمة أمام تلك المرآة. وقفت وكبريائي يصرخ فيَّ لألّا أرفع عيني نحوها، لكن صوتًا ضعيفًا بائسًا همس بداخل رأسي وأخبرني أن أنظر فرفعت رأسي طواعية. لم أجفل مما رأيت بل إنني ابتسمت! لم يكن شيء قد اختلف فيّ وكما أراني دائما أشبه شجرة الصفصاف، شعري الطويل المتموج حولي، والحفرتين تحت عيني، وجسدي النحيل، مرتدية قميص شخصيات المنتقمون المفضلة لدي .. هذه أنا ولا شيء مخيف في! لكن .. حينما نظرت نحو عيني قطبت جبيني مباشرة، تسارعت أنفاسي ثم غطيت فمي بيدي بعفوية، فقد ظنت يداي أنهما تستطيعان منع ما سيحدث .. أذعن كل جسدي للموقف فوهنت قدمي وهويت أمام المرآة، لكن شيئا كان يشدني فلم أزل أحدق النظر في انعكاس عيني، وصوتي يرتفع. كفيّ الذان يضغطان على فمي بشدة فشلا في منع شهقاتي من الارتفاع .. انتحبت وبكيت بشدة لكل شيء وللا شيء، بكيت مواساة لنفسي وبكيت عزاء لروحي، بكيت للطفل الذي أرى صورته كلما أغلقت عينيّ، بكيت للآخرين، وبكيت من أجل البكاء فقط، مددت يدي نحو المرأة وأمسكتها لعلها تتوقف عما تفعله، حتى تركت عيني وشأنهما، خفضت رأسي من توي وأغمضت عينيّ بعد أن جفتا، سحبت نفسًا عميقًا إلى كهف صدري ثم أطلقته وعدت لا أشعر مجددًا .. نهضت بحركة آلية ثم توجهت نحو سريري، تناولت هاتفي و انطلقت أكتب نكات ساخرة متهكمة وأحاول زرع اللطف أينما سنحت لي الفرصة، وهاقد عادت الفريدة لعادتها القديمة.

قياسي

أضف تعليق